الثلاثاء، 30 يونيو 2015

الإسلام حركة من أجل الحياة


في نداء الله تعالى للمؤمنين، فيما يريد أن يوجِّههم إليه، ويركِّز تفكيرهم عليه، حتّى يعرفوا أنَّ الإيمان ليس مجرّد حالة طقوسيَّة يمارسها الإنسان المؤمن، ولكنَّه دعوةٌ من أجل أن يعيش المؤمن الحياة بكلّ أبعادها، انطلاقاً من دعوة الله ورسوله، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[1].

دعوة إلى الحياة

إنَّ هذه الآية ـ في فقرتها الأولى ـ تختصر الإسلام كلَّه، فالإسلام ـ فيما أوحى الله به إلى رسوله في كتابه، وما أفاض به النبيّ(ص) في سنَّته ـ هو دعوة إلى الحياة، وليس دعوةً إلى الموت، وهو يربط الإنسان بالحياة في خطِّ المسؤوليَّة في كلّ أبعادها، بخلاف ما كانت عليه الجاهليَّة، الَّتي كانت موتاً ثقافيّاً وروحيّاً وإنسانيّاً، لأنَّها لم تنفتح على الجانب الفكريّ، ليبدع أفرادها الفكر الجديد الَّذي يمكن أن يصنع لهم حضارةً في جميع مواقف الحياة، بل كانوا مشدودين إلى الأحجار الّتي لا تملك أيّة نبضة للحياة، من خلال أوهامٍ سيطرت على تفكيرهم، لا من خلال أنهم اختاروا فكر الوثنيَّة على أساس قاعدةٍ فكريّةٍ تُناقش الخطّ، ولكن على أساس أنهم ورثوا وثنيَّتهم من آبائهم، الَّذين كانوا لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون، وعاشوا ـ بفعل هذه العاطفة الَّتي تربطهم بآبائهم ـ الخطَّ العمليَّ الَّذي سار عليه آباؤهم على ما قصّهُ القرآن لنا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}[2].

وكانت الجاهليَّة تمثّل موت الوعي في نفس الإنسان، ولذلك، أخذوا بالعصبيّة بعيداً عن جانب الفكر ومناقشاته وكلّ خطوطه. والعصبيَّة في جوهرها، تمثّل إلغاء الفكر، فالجاهليّون لم ينفتحوا على الفكر ليناقشوا خطوط العصبيَّة، ولو ناقشوها، لما رأوا فيها أيَّ معنى يخدم الحياة الإنسانيَّة ويطوّر إنسانيّة الإنسان؛ فالجاهليّةُ كانت تمثّلُ موتاً في الجانب الرّوحيّ، من حيثُ انفتاحها على الوثنيَّة والصنميَّة الّتي لا توحي بالتفاعل الحيّ في معنى العبادة، وموتاً في مسألة الجهل والتخلّف التي كانت تحكم عقولهم، وقد جمَّدت هذه العقول، ولم تسمح لها بأن تتحرّك وتنتج وتعمل على أساس أن توجِّه الإنسان في إدراكهِ للحسن والقبح والضرّ والنّفع، وأبعدت الإنسان عن فهم معنى التوحيد لله سبحانه وتعالى، لأنَّ قصَّة التَّوحيد هي قضيّةٌ تنطلق من الفطرة، وتنطلق من العقل، فمن لا يعيش نقاء الفطرة وعمقها، لا يمكن أن ينفتح على مسألة التوحيد الّتي هي كما قال الله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}[3].

لذلك، أراد الإسلام للنَّاس الحياة، في دعوته إلى الالتزام به والانتماء إليه، وليس المقصود من ذلك الحياة الحيوانيّة أو النباتيّة، وهي حياة الجسد، ولكنَّه أراد حياةً من نوعٍ آخر، أراد حياةً شاملةً بمختلف أصنافها في الدّنيا، وحياةً شاملةً بكلّ امتداداتها في الآخرة.

التوحيد بين العبوديّة والحرّية

وفي ضوء هذا، عندما ننطلق لنفهم هذه الحياة الّتي أرادها الله، نجد أنَّ الله سبحانه وتعالى بدأ بحياة الحريَّة، فالإسلام كان دعوةً إلى التّوحيد، والتّوحيد يمثّل خطَّين:

أمَّا الخطّ الأوَّل، فهو العبوديّة لله سبحانه وتعالى. فالتّوحيد يقول لك: إنك عبدٌ للهِ وحده، وإنَّ هذه العبوديَّة تمتدّ لتكون عبوديّةً في الألوهيَّة، وعبوديّةً في العبادة، وعبوديّةً في الطّاعة، فلا ربوبيَّة لغيره، ولا عبادة لغيره، ولا طاعة لغيره أمام طاعته.

وأمَّا الخطّ الثّاني، فهو الحريَّة، وذلك أنَّ عبوديّتك لله وحده تقول لك: إنَّك حرٌّ أمام العالم كلّه، لست عبداً لأيٍّ من الظواهر الكونيَّة؛ لست عبداً للشمس، ولا للقمر، ولا للكواكب، ولا للأصنام، ولا لأولئك الَّذين يتألّهون، لست عبداً لأحد.

والحريَّة حياة؛ فأنت عندما تكون حرّاً، فإنَّك تشعر بأنّ الحياة تضجّ في إرادتك وحركتك، وأنَّك لست مسجوناً في نطاق زنزانةٍ تجعلك خاضعاً لإنسانٍ هنا أو لواقعٍ هناك.

ثم نلاحظ ـ بعد ذلك ـ أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يعيش حياة العلم، لأنَّ العلم يمثّل الحياة المتحركة في عقل الإنسان وفي قلبه وحياته، لأنَّه يجعله ينطلق إلى آفاق الكون ليكتشف أسرارها، وليعرف طبيعة الحياة الّتي أودعها الله فيها، ولينفتح بها على الإنسان في كلّ طاقاته، ليعرف أسرارَ هذا الإنسان في خلقه وحركته وامتداداته.

وهكذا، نجد أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يعيش الحياة الرّوحيَّة، في حركته في آفاق الرّوح التي تنفتح على الله سبحانه وتعالى، وتطوف في أرجاء هذا العالم الَّذي خلقه الله، لتكتشف أسرار عظمة الله سبحانه في خلقه، لتنفتح من خلال ذلك على عبوديّة الإنسان لله سبحانه وتعالى في هذه الحياة.

وعلى هذا، فإنّنا نفهم أنَّ الدّين عندما يحرّك الإنسان في عالم الرّوح، وفي عالم الثقافة، وفي عالم العلم، وفي عالم الإحساس بالمسؤوليَّة، وفي عالم الوعي لما حوله ومن حوله، فإنَّه يمثّل هذه الحياة المتحركة الّتي يعيش فيها الإنسان التكامل مع النظام الذي أودعه الله في الكون، ومع كلّ حركة الإنسان في المسيرة الإنسانيّة في كلّ تاريخها وفي كلّ سننها. ومن الطّبيعيّ جدّاً أنّ هذا النوع من التكامل بين الإنسان والكون ـ باعتبار أنَّ الإنسان جزءٌ من الكون ـ يجعل من الجهاد حركة حياةٍ، سواء كان الجهادُ داخليّاً في ما هو جهاد النفس، أو كان الجهاد خارجيّاً في جهاد الأعداء وجهاد المستكبرين، باعتبار أنَّ الجهاد يمثِّل المسألة الحركيَّة للإنسان، على أساس محاربة الظّلم والاستكبار، وعلى أساس إيجاد التّوازن بين مواقع القوى بين الناس في كلّ جانب.

الإسلام تجديدٌ للإنسان

إنَّ الإسلام يمثّل التَّجديد للإنسان، بإخراجه من ظلمات الجاهليَّة إلى نور الحضارة والتقدم الذي يمثّله الإسلام، ويمثّل إنقاذاً له عندما يخلقه خلقاً إنسانيّاً روحيّاً، ويخرجه من موت الجاهليّة الّذي تمثّله خطوط الجاهليَّة في جميع الحالات؛ هذا الموت الذي يذهب ويزول عندما يعيش الإنسان الحياة الجديدة من خلال وحي الله، ومن خلال سنّة نبيّه. إنَّ الله أعطانا الحياة الجسديَّة، بأن جعل لأجسادنا هذه الحيويّة المتحركة بإرادته، وأعطانا الحياة الرّوحيَّة والثقافيَّة، وحياة المسؤوليَّة والوعي، في ما أوحى اللهُ به في كتابه وأفاضهُ النَّبيّ في سنَّته.

وعلى ذلك إذاً، فإنَّ الإسلام الّذي يمثِّل الحياة، يحقِّق التّوازن في كلِّ أوضاع الإنسان، فلا تنحرف حياته إلى خطّ السّلبيّة الّتي تهمل كلّ شيءٍ حولها، ولا تتطرّف في خطّ الإيجابيّة حتى تغلق على نفسها كلّ باب للحريّة، بل يمتدّ التّوازن بين النّـزعة الماديّة والنّـزعة الروحيّة، فالإنسان في الإسلام ليس مادّةً مجرّدة، كما أنه ليس روحاً مجرّدة، بل هو هذا المزيج من الرّوح ومن المادّة اللّتين تتزاوجان، لينطلق الإنسان في وحدته إلى التّوازن بين الشّخصيّة الفرديّة والشخصيّة الاجتماعيّة، فالإنسان ليس مجرّد فردٍ منفصل عن مجتمعه، وليس مجرّد جزءٍ في المجتمع، ولكنّه يعيش فرديّته في حاجاته الخاصَّة وفي إمكاناته الفكريّة، كما يعيش كونه جزءاً من المجتمع، في علاقته به، وفي تكامله معه، وفي حاجاته الجماعيّة بالنِّسبة إليه. وبذلك، يحسب الإنسان لكلِّ شيءٍ حسابه، ويضع كلَّ شيءٍ في موضعه على أساس الحكمة والاتّزان، وذلك هو معنى الحياة في معنى الشخصيّة...

التّضحية من أجل الإسلام

وأهداف الإسلام من وجود الإنسان، هي ذاتها أهداف الحياة في امتداد المعرفة وعمقها، في كلّ ما تختزنه من أسرار، وتثيره من قضايا، وتواجهه من أحداث، وفي ما تستوعبه من معلومات، حتى إنَّها تدعوه إلى الإحاطة بكلِّ شيءٍ يمكن له الإحاطة به، فلا يغيب عنه شيء في ذلك وفي معنى الحريَّة، بحيث لا يضغط أحد على حريّة الإنسان، بعيداً عن الضّغوط الداخليّة أو الخارجيّة، في انطلاقةٍ شجاعةٍ تتمرّد على كلّ نوازعها وتحدّياتها وأوضاعها، وفي حركة الرّسالة في حياة الإنسان، بحيث يكون تجسيداً للرّسالة وانفتاحاً عليها، ليواجه الحياة من موقع الرِّسالة التي تتطلّع إلى كلّ زاويةٍ من زواياها، لتتحرّك فيها القيم الروحيَّة التي تبني للإنسان إنسانيّته، وتحقّق للحياة معناها، فلا تتجمَّد حياته عند حدود حاجاته، بل تتجاوزها إلى التحرك في نطاق القضايا الكبيرة من أهدافه. وهكذا تكون التضحية بالحياة لوناً من ألوان حركة الحياة، لأنها تضحيةٌ من أجل خدمة الحياة، وهذا ما يمثّله الجهاد، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[4]، وفي آيةٍ أخرى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ}[5].

وهذا ما أراد القرآن الكريم الإيحاء به، عندما اعتبر العلم والإيمان والجهاد والشهادة، مظهراً من مظاهر الحياة، ولذلك كانت الاستجابة لله وللرّسول، استجابةً للجانب الحيّ من حركة الرّسالة في الحياة. وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه في ما نلتقي به من أحكام الشَّريعة وأسرارها وقضاياها، لنكتشف في ذلك كلّه كيف تستوعب الشَّريعة الحياة، وكيف تخضع الحياة لدعوة الشَّريعة في ما تريد أن تحقِّقه من أهدافٍ أو تواجهه من مشاكل وحلول.

وعلى ضوء هذا، نفهم أنَّ من يحسبون الدّين حركةً من أجل الموت هم مخطئون، لأنّه حركة من أجل الحياة الدّنيا، في ما يأخذ به الناس من مسؤوليَّاتهم في الدنيا، حيث إنَّ عليهم أن يزرعوا الدّنيا لتكون مزرعة الآخرة، ليواجهوا نتائج أعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ.

أمَّا قوله تعالى في الفقرة الثّانية من الآية: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[6]، فالكلام حوله في حديث آخر، إن شاء الله تعالى.

 السيد محمد حسين فضل الله